أحد المبشرين بالجنة وأمير المؤمنين
عثمان بن عفان رضي الله عنه
عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في بيتي ، كاشفا عن فخذيه أو ساقيه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وسوى ثيابه - قال محمد : ولا أقول ذلك في يوم واحد - فدخل فتحدث فلما خرج قالت عائشة : دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك !
فقال عليه الصلاة والسلام : " ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة " .
رواه مسلم .
هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أميّة القرشي ، أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد الستة الذي جعل عمر الأمر شورى بينهم ، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق ، توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنه راضٍ صلى إلى القبلتيـن وهاجر الهجرتيـن وبمقتله كانت الفتنة الأولى في الإسلام .
إسلامه :
كان عثمان بن عفان رضي الله عنه غنياً شريفاً في الجاهلية ، وأسلم بعد البعثة بقليل ، فكان من السابقين إلى الإسلام ، فهو أول من هاجر إلى الحبشة مع زوجته رقيّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الهجرة الأولى والثانية .
وهو أوّل من شيّد المسجد ، وأوّل من خطَّ المفصَّل ، وأوّل من ختم القرآن في ركعة ، وكان أخوه من المهاجرين عبد الرحمن بن عوف ومن الأنصار أوس بن ثابت أخا حسّان .
قال عثمان رضي الله عنه : ( إن الله عز وجل بعث محمداً بالحق ، فكنتُ ممن استجاب لله ولرسوله ، وآمن بما بُعِثَ به محمدٌ ، ثم هاجرت الهجرتين وكنت صهْرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعتُ رسول الله فوالله ما عصيتُه ولا غَشَشْتُهُ حتى توفّاهُ الله عز وجل ) .
الصّلابة :
لمّا أسلم عثمان رضي الله عنه أخذه عمّه الحكم بن أبي العاص بن أميّة فأوثقه رباطاً ، وقال : ( أترغبُ عن ملّة آبائك إلى دين محدث ؟
والله لا أحلّك أبداً حتى تدعَ ما أنت عليه من هذا الدين ) .. فقال عثمان : ( والله لا أدَعُهُ أبداً ولا أفارقُهُ ) .. فلمّا رأى الحكم صلابتَه في دينه تركه .
ذي النورين :
لقّب عثمان رضي الله عنه بذي النورين لتزوجه بنتيْ النبي صلى الله عليه وسلم رقيّة ثم أم كلثوم ، فقد زوّجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته رقيّة ، فلّما ماتت زوّجه أختها أم كلثوم فلمّا ماتت تأسّف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصاهرته فقال : ( والذي نفسي بيده لو كان عندي ثالثة لزوّجنُكَها يا عثمان ) .
سهم بَدْر :
أثبت له رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمَ البدريين وأجرَهم ، وكان غاب عنها لتمريضه زوجته رقيّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إن لك أجر رجلٍ ممن شهد بدراً وسهمه ) .
الحديبية :
بعث الرسول صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان يوم الحديبية إلى أهل مكة ، لكونه أعزَّ بيتٍ بمكة ، واتفقت بيعة الرضوان في غيبته ، فضرب الرسول صلى الله عليه وسلم بشماله على يمينه وقال : ( هذه يدُ عثمان ) .. فقال الناس : ( هنيئاً لعثمان ) .
جهاده بماله :
قام عثمان بن عفان رضي الله عنه بنفسه وماله في واجب النصرة ، كما اشترى بئر رومة بعشرين ألفاً وتصدّق بها ، وجعل دلوه فيها لدِلاِءِ المسلمين ، كما ابتاع توسعة المسجد النبوي بخمسة وعشرين ألفاً .
كان الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاةٍ ، فأصاب الناس جَهْدٌ حتى بدت الكآبة في وجوه المسلمين ، والفرح في وجوه المنافقين ، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك قال : ( والله لا تغيب الشمس حتى يأتيكم الله برزقٍ ) .. فعلم عثمان أنّ الله ورسوله سيصدقان ، فاشترى أربعَ عشرة راحلةً بما عليها من الطعام ، فوجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم منها بتسعٍ ، فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما هذا ؟ ) ..
قالوا : أُهدي إليك من عثمان .
فعُرِفَ الفرحُ في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم والكآبة في وجوه المنافقين ، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه حتى رُؤيَ بياضُ إبطيْه ، يدعو لعثمان دعاءً ما سُمِعَ دعا لأحد قبله ولا بعده : ( اللهم اعط عثمان ، اللهم افعل بعثمان ) .
قالت السيدة عائشة رضي الله عنها : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ فرأى لحماً فقال : ( من بعث بهذا ؟ ) .. قلت : عثمان .
فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعاً يديْهِ يدعو لعثمان .
جيش العُسْرة :
وجهّز عثمان بن عفان رضي الله عنه جيش العُسْرَة بتسعمائةٍ وخمسين بعيراً وخمسين فرساً ، واستغرق الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعاء له يومها ، ورفع يديه حتى أُريَ بياض إبطيه .. فقد جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار حين جهّز جيش العسرة فنثرها في حجره ، فجعل صلى الله عليه وسلم يقلبها ويقول : ( ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم ) .. مرتين .
الحياء :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أشد أمتي حياءً عثمان ) .
قالت السيدة عائشة رضي الله عنها : استأذن أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على فراش ، عليه مِرْطٌ لي ، فأذن له وهو على حاله ، فقضى الله حاجته ، ثم انصرف ثم استأذن عمر فأذن له ، وهو على تلك الحال ، فقضى الله حاجته ، ثم انصرف ثم استأذن عثمان ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصلح عليه ثيابه وقال : ( اجمعي عليك ثيابك ) .. فأذن له ، فقضى الله حاجته ثم انصرف ، فقلت : ( يا رسول الله ، لم أركَ فزِعْتُ لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان !! ) ..
فقال : ( يا عائشة إن عثمان رجل حيي ، وإني خشيت إنْ أذنْتُ له على تلك الحال أن لا يُبَلّغ إليّ حاجته ) .. وفي رواية أخرى : ( ألا أستحي ممن تستحيي منه الملائكة ) .
فضله :
دخل رسـول الله صلى الله عليه وسلم على ابنته وهي تغسل رأس عثمان فقال : ( يا بنيّة أحسني إلى أبي عبد الله فإنّه أشبهُ أصحابي بي خُلُقـاً ) .. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ يُبغضُ عثمان أبغضه الله ) .. وقال : ( اللهم ارْضَ عن عثمان ) .. وقال : ( اللهم إن عثمان يترضّاك فارْضَ عنه ) .
اختَصّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة الوحي ، وقد نزل بسببه آيات من كتاب الله تعالى ، وأثنى عليه جميع الصحابة ، وبركاته وكراماته كثيرة ، وكان عثمان رضي الله عنه شديد المتابعة للسنة ، كثير القيام بالليل .
قال عثمان رضي الله عنه : ( ما تغنيّتُ ولمّا تمنّيتُ ، ولا وضعتُ يدي اليمنى على فرجي منذ بايعتُ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما مرّت بي جمعة إلا وإعتقُ فيها رقبة ، ولا زنيتُ في جاهلية ولا إسلام ، ولا سرقت ) .
اللهم اشهد :
عن الأحنف بن قيس رضي الله عنه قال : انطلقنا حجّاجاً فمروا بالمدينة ، فدخلنا المسجد ، فإذا علي بن أبي طالب والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص .
فلم يكن بأسرع من أن جاء عثمان عليه ملاءة صفراء قد منع بها رأسه فقال : ( أها هنا علي ؟ ) .. قالوا : نعم .
قال: ( أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من يبتاع مِرْبدَ بني فلان غفر الله له ) .. فابتعته بعشرين ألفاً أو بخمسة وعشرين ألفاً ، فأتيت رسـول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : ( إني قد ابتعته ) .. فقال : ( اجعله في مسجدنا وأجره لك ) .. قالوا : نعم
قال : ( أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من يبتاع بئر روْمة غفر الله له ) فابتعتها بكذا وكذا ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : ( إني قد ابتعتها ) .. فقال : ( اجعلها سقاية للمسلمين وأجرها لك ) .. قالوا : نعم
قال : ( أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر في وجوه القوم يوم ( جيش العُسرة ) فقال : ( من يجهز هؤلاء غفر الله له ) .. فجهزتهم ما يفقدون خطاماً ولا عقالاً ) .. قالوا : نعم
قال : ( اللهم اشهد اللهم اشهد ) .. ثم انصرف .
الخلافة :
كان عثمان رضي الله عنه ثالث الخلفاء الراشدين ، فقد بايعه المسلمون بعد مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 23 هـ ، فقد عيَّن عمر ستة للخلافة فجعلوا الأمر في ثلاثة ، ثم جعل الثلاثة أمرهم إلى عبد الرجمن بن عوف بعد أن عاهد الله لهم أن لا يألوا عن أفضلهم ، ثم أخذ العهد والميثاق أن يسمعوا ويطيعوا لمن عيّنه وولاه ، فجمع الناس ووعظهم وذكّرَهم ثم أخذ بيد عثمان وبايعه الناس على ذلك ، فلما تمت البيعة أخذ عثمان بن عفان حاجباً هو مولاه وكاتباً هو مروان بن الحكم .
ومن خُطبته يوم استخلافه لبعض من أنكر استخلافه أنه قال : ( أمّا بعد ، فإنَّ الله بعث محمداً بالحق فكنت ممن استجاب لله ورسوله ، وهاجرت الهجرتين ، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ما غششْتُهُ ولا عصيتُه حتى توفاه الله ، ثم أبا بكر مثله ، ثم عمر كذلك ، ثم استُخْلفتُ ، أفليس لي من الحق مثلُ الذي لهم ؟! ) .
الخير :
انبسطت الأموال في زمنه حتى بيعت جارية بوزنها ، وفرس بمائة ألف ، ونخلة بألف درهم ، وحجّ بالناس عشر حجج متوالية .
الفتوح الإسلامية :
وفتح الله في أيام خلافة عثمان رضي الله عنه الإسكندرية ثم سابور ثم إفريقية ثم قبرص ، ثم إصطخر الآخـرة وفارس الأولى ثم خـو وفارس الآخـرة ، ثم طبرستان ودُرُبجرْد وكرمان وسجستان ، ثم الأساورة في البحر ثم ساحل الأردن .
الفتنة :
ويعود سبب الفتنة التي أدت إلى الخروج عليه وقتله أنه كان كَلِفاً بأقاربه وكانوا قرابة سوء ، وكان قد ولى على أهل مصر عبدالله بن سعد بن أبي السّرح فشكوه إليه ، فولى عليهم محمد بن أبي بكر الصديق باختيارهم له ، وكتب لهم العهد ، وخرج معهم مددٌ من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بينهم وبين ابن أبي السّرح ، فلمّا كانوا على ثلاثة أيام من المدينة ، إذ همّ بغلام عثمان على راحلته ومعه كتاب مفترى ، وعليه خاتم عثمان ، إلى ابن أبي السّرح يحرّضه ويحثّه على قتالهم إذا قدموا عليه ، فرجعوا به إلى عثمان فحلف لهم أنّه لم يأمُره ولم يعلم من أرسله ، وصدق رضي الله عنه فهو أجلّ قدراً وأنبل ذكراً وأروع وأرفع من أن يجري مثلُ ذلك على لسانه أو يده ، وقد قيل أن مروان هو الكاتب والمرسل ! .
ولمّا حلف لهم عثمان رضي الله عنه طلبوا منه أن يسلمهم مروان فأبى عليهم ، فطلبوا منه أن يخلع نفسه فأبى ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد قال له : ( عثمان !
أنه لعلّ الله أن يُلبسَكَ قميصاً فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه ) .
الحصار :
فاجتمع نفر من أهل مصر والكوفة والبصرة وساروا إليه ، فأغلق بابه دونهم ، فحاصروه عشرين أو أربعين يوماً ، وكان يُشرف عليهم في أثناء المدّة ، ويذكّرهم سوابقه في الإسلام ، والأحاديث النبوية المتضمّنة للثناء عليه والشهادة له بالجنة ، فيعترفون بها ولا ينكفّون عن قتاله !! ..
وكان يقول : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليّ عهداً فأنا صابرٌ عليه ) .. ( إنك ستبتلى بعدي فلا تقاتلن ) .
وعن أبي سهلة مولى عثمان رضي الله عنه قال : قلت لعثمان يوماً : ( قاتل يا أمير المؤمنين ) .. قال : ( لا والله لا أقاتلُ ، قد وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً فأنا صابر عليه ) .
واشرف عثمان رضي الله عنه على الذين حاصروه فقال : ( يا قوم !
لا تقتلوني فإني والٍ وأخٌ مسلم ، فوالله إن أردتُ إلا الإصلاح ما استطعت ، أصبتُ أو أخطأتُ ، وإنكم إن تقتلوني لا تصلوا جميعاً أبداً ، ولا تغزوا جميعاً أبداً ولا يقسم فيؤكم بينكم ) .. فلما أبَوْا قال : ( اللهم أحصهم عدداً ، واقتلهم بدداً ، ولا تبق منهم أحداً ) .. فقتل الله منهم مَنْ قتل في الفتنة ، وبعث يزيد إلى أهل المدينة عشرين ألفاً فأباحوا المدينة ثلاثاً يصنعون ما شاءوا لمداهنتهم .
مَقْتَله :
وكان مع عثمان رضي الله عنه في الدار نحو ستمائة رجل ، فطلبوا منه الخروج للقتال ، فكره وقال : ( إنّما المراد نفسي وسأقي المسلمين بها ) .. فدخلوا عليه من دار أبي حَزْم الأنصاري فقتلوه ، والمصحف بين يديه فوقع شيء من دمـه عليه ، وكان ذلك صبيحـة عيد الأضحـى سنة 35 هـ في بيته بالمدينة .
ومن حديث مسلم أبي سعيد مولى عثمان بن عفان : أن عثمان أعتق عشرين عبداً مملوكاً ، ودعا بسراويل فشدَّ بها عليه ، ولم يلبَسْها في جاهلية ولا في الإسلام وقال : ( إني رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم البارحة في المنام ، ورأيت أبا بكر وعمر وأنهم قالوا لي : اصبر ، فإنك تفطر عندنا القابلة ) .. فدعا بمصحف فنشره بين يديه ، فقُتِلَ وهو بين يديه .
كانت مدّة ولايته رضي الله عنه وأرضاه إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهراً وأربعة عشر يوماً ، واستشهد وله تسعون أو ثمان وثمانون سنة ودفِنَ رضي الله عنه بالبقيع ، وكان قتله أول فتنة انفتحت بين المسلمين فلم تنغلق إلى اليوم .
يوم الجمل :
في يوم الجمل قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان ، ولقد طاش عقلي يوم قُتِل عثمان ، وأنكرت نفسي وجاؤوني للبيعة فقلت : إني لأستَحْيي من الله أن أبايع قوماً قتلوا رجلاً قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة ) .. وإني لأستحي من الله وعثمان على الأرض لم يدفن بعد ..
فانصرفوا ، فلما دُفِنَ رجع الناس فسألوني البيعة فقلت : ( اللهم إني مشفقٌ مما أقدم عليه ) .. ثم جاءت عزيمة فبايعتُ فلقد قالوا : ( يا أمير المؤمنين ) فكأنما صُدِعَ قلبي وقلت : ( اللهم خُذْ مني لعثمان حتى ترضى ) .
[b]